تطور التشريع الإعلامي في الدول المغاربية

22 مارس 2013
تطور التشريع الإعلامي في الدول المغاربية

      د.علي كريمي: يبدو من الصعب عزل تطور التشريع المغاربي للإعلام، عن البيئة السياسية التي عرفها كل قطر من الأقطار محل الدراسة. فالقوانين المغاربية للإعلام شديدة الارتباط، ووثيقة الصلة، بالمتغيرات السياسية الدولية كما بالمتغيرات السياسية الإقليمية والوطنية الداخلية. هي ليست إلا نتاج لواقع الشرط السياسي المحلي الداخلي، والدولي وإفرازا له.

لقد حمّست لحظة الاستقلال بعض هذه الدول، ودفعت بها إلى وضع قانون ليبرالي للإعلام، مكرسا للتعددية الإعلامية ومن خلالها التعددية السياسية. ولعل النموذج المغربي ذا دلالة في هذا المنحى، فالتشريع المغربي للإعلام بعد الاستقلال تأثر كثيرا بالظرفية السياسية التي ولد فيها. ومعلوم أن القواعد القانونية المنظمة للإعلام والاتصال مثلها مثل كافة القوانين المنظمة للحقوق والحريات العامة، هي وليدة الشروط السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي في رحمها نشأت ووضعت هذه القواعد. فالقوانين الإعلامية الصادرة في الدول المغاربية منذ الاستقلال حتى الآن، سواء في المغرب أو تونس والجزائر، فموريطانيا، كانت معبرة تعبيرا صادقا عن الأوضاع والظروف إياها.

سوف يتم التركيز على المحطات الكبرى التي مرت بها قوانين الإعلام في دول المغرب العربي الأربع، المغرب وتونس والجزائر وموريطانيا، مع استبعاد ليبيا، الاعتبار منهجي محض. فالدول الأربع خضعت لنفس الاستعمار، وتأثر تشريعها بالتشريع الفرنسي للإعلام لسنة 1881، كما خضعت وسائل الإعلام فيها، إبان الفترة الاستعمارية للتشريع الاستعماري للإعلام: وهو تشريع منسوخ من تشريع 1881 مضافة إليه تشديدات وقيود تستهدف على الخصوص الصحف المملوكة لمواطني الدول الأربع المستعمرة، وسوف يلاحظ بعد الاستقلال أنه عندما صارت تضع قوانينها للإعلام اعتمدت على قانون 29 يوليوز 1881 الفرنسي كمرجعية موحدة، ولعل ذلك ما قاد إلى التقارب والتشابه على مستوى البناء القانوني لهذه الدول في عدة أمور:

تتشابه التشريعات الإعلامية في الدول الأربع، من حيث تأثرها بالظروف السياسية الدولية والوطنية، في اتجاه توسيع حرية الإعلام أو في اتجاه تقييدها. وذلك ما يؤكده واقع رصد تطور هذه التشريعات منذ الاستقلال حتى اليوم عبر سلسلة من المحطات واللحظات على النحو الآتي:

  • لحظة الاستقلال إلى حدود منتصف السبعينات من القرن المنصرم
  • لحظة السبعينات إلى نهاية الثمانينات
  • لحظة نشوء النظام العالمي الجديد حتى الآن

أولا: التشريعات المغاربية للإعلام الصادرة بعد الاستقلال

الإعلام في الدول المغاربية الأربعة، كان محكوما، إبان الفترة الاستعمارية بتشريع وضع من قبل الحماية، وعند حصول هذه الدول على استقلالها، بدأت تتخلى عن التشريع الاستعماري للإعلام المطبق فيها جزئيا وشيئا فشيئا، دون أن يعني ذلك إلغاؤها للترسنة القانونية المنظمة للإعلام كليا أثناء الفترة الاستعمارية. لقد تم الاحتفاظ ببعض النصوص الاستعمارية لتطبق على مجالات الحقوق والحريات وخاصة على حرية الرأي والتعبير. وتجدر الإشارة هنا على سبيل المثال إلى قانون: 1936 في المغرب الذي استمر العمل به إلى حدود 1994[1] على الرغم من كون قانون 15 نونبر 1958 كان الهدف من وضعه هو التخلي بشكل لارجعة فيه عن التشريع الإعلامي المطبق خلال المرحلة الاستعمارية.

إن التشريعات المغاربية للإعلام محكومة بسمة الاعتزاز بالاستقلال وما خلفه من روح حماسية، إذ لازالت رنة نشوته حاضرة وبقوة في آذان وأذهان المشرعين المغاربيين. في المغرب وتونس والجزائر وموريطانيا. وهي (أي التشريعات) محكومة بالشرط السياسي الوطني وبما يحمله من صراع على السلطة بين الفرقاء السياسيين داخليا (حالة المغرب).

كما أنها محكومة بما تعرضت له صحافة حركة التحرير الوطني، من اضطهاد وتضييق، وقمع ومصادرة، خلال الفترة الاستعمارية. ولذلك فإن حركة التحرير هذه عندما صارت مالكة لسلطة الحكم، وضعت قوانين للإعلام فيها بعض من الحرية والانفتاح، حتى وإن لم تكن تؤمن بالتعددية.

بعد استقلال الدول المغاربية، ولحظة وضعها للتشريعات الإعلامية لم تكن هناك وثائق دولية ذات أهمية تشدد على حرية الإعلام ما عدا ما نصادفه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10 دجنبر 1948، أو من نشاطات الأمم المتحدة، ووكالاتها المتخصصة كمنظمة اليونسكو، أو الاتفاقية الدولية لسنة 1953 حول حق الرد[2] ومشروع اتفاقية حرية الإعلام.

وخلال اللحظة التي بدأت هذه الدول ( أو على الأقل بعضها) تضع تشريعاتها الإعلامية، كان الاهتمام بحقوق الإنسان لازال ضعيفا على المستوى الدولي، وذلك بفعل سيادة الحرب الباردة، وهيمنة الثنائية القطبية الجامدة على العلاقات الدولية. فانشغال المجتمع الدولي بذلك قلل من اهتماماته بقضايا حرية الإعلام والتعبير، وحقوق الإنسان.

وفي النظام الإقليمي العربي الذي تنتمي إليه هذه المجموعة من الدول محل الدراسة، لم يعر المحيط العربي نفسه الاهتمام لمسألة حرية الإعلام خلال هذه الفترة، بل كرست هناك في مختلف مكوناته سيادة فكرة الرأي الواحد، وإلغاء التعددية بالخصوص بعد حرب السويس وما قبلها بقليل.

العوامل المشار إليها، أثرت في مختلف التشريعات المغاربية للإعلام، وجعلتها تتراوح بين التقييد والتفتح، إزاء حرية الرأي والتعبير وحرية الإعلام. كما جعلتها تتراوح بين تشريعات ليبرالية مطلقة، سوف تتحول بعد وقت وجيز إلى تشريعات قيدت فيها حرية التعبير. وتشريعات كبلت هذه الحرية منذ البداية، وجعلت الإعلام تحت رحمة السلطة وفي خدمتها.

ثانيا: القوانين الأولى والتأثر بالشرط السياسي

ظهرت القوانين المنظمة للإعلام عقب الاستقلال وكأنها قوانين منفتحة ومدافعة على حرية الإعلام، وبالخصوص الإعلام المكتوب، وعدم فرض قيود عليه، ماعدا ما اقتضته المحافظة على الأسس السياسية والدينية للدولة، وما يستلزمه الدفاع والحفاظ على الأمن العام والنظام والأخلاق والآداب العامة. يبدو ذلك في التشريعات الأولى للإعلام المكتوب. أما الإعلام السمعي البصري فهو محتكر من قبل الدولة في كل الدول المغاربية[3]. لكن النفس الشبه الليبرالي داك سرعان تم التخلي عنه في تونس، والجزائر، كما حصل التدرج في التخلي عنه في المغرب خطوة خطوة.

فإذا كان الإعلام السمعي البصري محتكر أصلا من طرف الدولة في مختلف هذه الدول، فإن مبدأ الاحتكار هذا صار يطال الإعلام المكتوب في تونس والجزائر، وحتى في موريطانيا بدءا من سنة 1963. ومقابله صار يحصل في المغرب قضم بعض الجوانب الليبرالية المشرقة في قانون 15 نونبر 1958، ما بين 1960 حتى 1965، سنة إعلان حالة الاستثناء.

إن القيود المفروضة على حرية الإعلام في الدول المغاربية الأربع، والمكرسة في قوانين إعلامها، لا يستقيم فهم لماذا وردت على الصورة التي وردت بها، بدون استحضار الظروف السياسية الداخلية لهذه البلدان، وكذا الظروف السياسية الدولية والإقليمية. إن قراءة تلك الظروف هي ما يوضح لماذا حدث ما حدث؟

فلو أخذنا النموذج المغربي الذي جاء قانونه ليبراليا متأثرا بفكر التعددية ورغبة إقصاء، أو على الأقل إضعاف هيمنة حزب غالب، يتضح كيف أن الصراع الداخلي بين المعارضة والقصر في المغرب صارت تتأرجح منذ إقالة الحكومة الاستقلالية التي كان يترأسها المرحوم مولاي عبد الله إبراهيم ما بين دجنبر 1958 وماي 1960، وكيف بدأت ليبرالية قانون 1958 تتراجع منذ ذاك حتى سنة 1965[4] عند إعلان حالة الاستثناء وكيف لعبت الأحداث السياسية الداخلية بعد محاولتي الانقلاب الأولى في 1971 والثانية في 1972، وأحداث 3 مارس 1973 دورا في إنهاء ما تبقى من ليبرالية قانون الإعلام والاتصال، بعد إدخال تعديلات عليه في 10 أبريل 1973 في اتجاه تقييد أكثر شمولا لحرية الرأي والتعبير.

وفي الجزائر التي خرجت تحت نير الاستعمار الفرنسي عام 1962، شعرت الحكومة هناك، بأهمية وسائل الاعلام فوضعت يدها على هذا القطاع الاستراتيجي، فأصدرت في 31 دجنبر 1962 قانونا يؤكد على الاستمرار في تطبيق القوانين الجاري بها العمل في الفترة الاستعمارية، مع اشتراط أن لا يكون بها ما من شأنه المساس بالسيادة الوطنية، أو يتعارض معها. ولم يتم تعديل هذا القانون إلا بعد صدور أمر بتاريخ 5 يوليوز 1973 الذي ألغى نهائيا قانون 31 دجنبر 1962.

ومن المعلوم أنه منذ يوليوز 1962 قبل تأسيس أول حكومة جزائرية مؤقتة ناتجة عن اتفاقيات “إفيان”، وجهت هذه الأخيرة تلغرافا إلى كل جهات البلاد، أي إلى كل الولايات، تسمح بموجبها للولاة بمراقبة مضمون الجرائد والنشرات قبل الترخيص لها بالطبع، مع مصادرة كل النسخ عند صدورها، وذلك في الحالات التي لا تلتزم فيها هذه الصحف بالتعليمات الصادرة من الولاة. كما قررت الحكومة الجزائرية أن تضع المؤسسات الصحفية تحت وصاية الحكومة والحزب بدءا من شهر غشت 1963، واحتكار توزيع الأخبار في سبتمبر 1964، وتأميم الصحافة المكتوبة في نفس التاريخ[5].

وهكذا فما بين 1962 إلى حدود وضع قانون للإعلام في الجزائر في سنة 1982، وضعت الحكومة عدة نصوص تهم: نظام المؤسسات الصحفية، قانون نونبر 1967 الذي يحدد نظام الصحافة المكتوبة، والنظام الأساسي للمهنة في شتنبر 1968، ونظام النشر وخاصة حقوق المؤلف في 1973.

ومع ذلك فإن النصوص المشار إليها على أهميتها، إلا أنها لم تعمل على سد الفراغ القانوني الذي ميز قطاع الإعلام في الجزائر بشكل عام، ونظام النشر بشكل خاص. وهكذا نجد حتى القانون الجنائي الجزائري المطبق منذ 1966 قد أشار في المادة 298 وفي المادة: 299، إلى المساس بشرف الأشخاص، وإلى التحقير والتشهير، وخاصة إلى السبب والقذف، بدون تحديد وتدقيق المسطرة في حالة ما إذا تم ذلك عن طريق الصحافة.

ويتضح مما سلف أنه في الجزائر قد وضعت الدولة يدها على هذا القطاع بتحريره أولا من يد المستعمر، ثم بعد ذلك تأميمه، وفي مرحلة ثالثة تركيزه في يد الدولة، وقد عبر على ذلك بصورة أكثر وضوحا الأستاذ إبراهيم الإبراهيمي في أطروحة حول “السلطة والصحافة في الجزائر”. حيث أكد “فيما بين 1962 و 1965 كانت مسؤولية إدارة أجهزة الإعلام يتحملها رجال السياسة. وابتداء من سنة 1965 حل محل هؤلاء الموظفون الإداريون”. ويبدو أن لهذا التحول علاقة بالتغيير السياسي الحاصل في الجزائر إثر انقلاب 19 يونيو 1965.

عرفت الجزائر إذن سلسلة من الأوامر تسعى إلى تنظيم الإعلام مع بقائها متمسكة بقانون فرنسا لسنة 1881، دون تطبيقه فعلا، ففي أطروحته المخصصة للإعلام الجزائري سنة 1976 يتعرض الحسين سياح: إلى حكم صادر عن محكمة الجزائر بتاريخ فاتح غشت 1968 فالقاضي لكي يعاقب جريمة القذف اعتمد على قانون 8 يونيو 1966 وهو القانون الجنائي الجزائري، ولم يعتمد على القانون الفرنسي ل 29 يوليوز 1881.

وفي الجزائر على مستوى آخر هناك الاحتكار المراقب للإعلام، ما يعني خدمة الصحافة للإدارة: أي أن الصحافة صارت في خدمة السلطة التنفيذية وهكذا تفوت مراقبة الدولة لوسائل الإعلام بفعل وجود فراغ قانوني مهول. فالجزائر لم تعرف أول قانون للإعلام إلا في عام 1982، وهو في عمقه ليس إلا وثيقة جنائية، تعاقب ممارس الصحافة أكثر مما تحمى مهنة الصحافة.

من خلال ما سبق يبدو أن هناك تقارب بين التجارب المغاربية فيما يخص قوانين الاعلام وارتباطها بتشريع الدولة المستعمرة وبالخصوص قانون 29 يوليوز 1881 الفرنسي الذي طبق في بعض الدول بعد الاستقلال كما هو الشأن في الجزائر أو اتخذ في البعض الآخر كمرجعية استقى منها قانونها للإعلام كما هو الشأن في المغرب أو في موريطانيا أو تونس.

ففي تونس صدر المرسوم الخاص بالصحافة في تاريخ 9 فبراير 1956 مباشرة بعد التوقيع على الاتفاقية الفرنسية التونسية الخاص بالاستقلال الذاتي عام 1955. هذا القانون تأثر كثيرا بالتشريع الفرنسي للإعلام الصادر في ظل الجمهورية الثالثة الفرنسية. لقد نص القانون التونسي تأثرا بالفرنسي المشار إليه في مادته الأولى على [… مبدأ حرية الصحافة والنشر]، تماما كما فعل التشريع المغربي في 15 نونبر 1958. وأما بقية المواد الأخرى المكونة لهذا القانون فهي كلها تدور حول تنظيم هذه الحرية: حرية الصحافة والنشر.

فالمادة: 54 من هذا القانون ألغت سلسلة من المراسيم القانونية التي قيدت الصحافة المكتوبة في تونس فأردتها صحافة خرساء، ومن هذه المراسيم:

  • مرسوم 6 غشت 1936- مرسوم 15 سبتمبر 1939- مرسوم 9 غشت 1944
  • مرسوم 4 يناير 1945.

صدر في تونس عقب الاستقلال مرسوم تكميلي في 7 نونبر 1957، يهدف إلى تيسير وتسهيل مهمة وزير الداخلية لدعم النظام الجديد، وقد تضمن تعديلات ذات أهمية عملية: فمن جهة نظم تسهيل عملية الإيداع القانوني، كما نظم عملية مصادرة الصحف الأجنبية في حالة مساسها بالنظام العام. وينضاف إلى هذا نصان قانونيان آخران، تم إصدارهما بتاريخ 10 غشت 1957 و 30 غشت 1961 يهدفان إلى مراقبة التمويل الأجنبي للصحافة التونسية.

إن قانون 9 فبراير 1956 بقي على الرغم من تعديله مجرد نص ظرفي وليس بمدونة حقيقية لممارسة حرية الرأي والتعبير فهذا الأخير كما سبقت الإشارة إلى ذلك جاء عشية المفاوضات بين فرنسا وتونس حول الاستقلال، كما جاء سابقا على التحولات القانونية التي عرفتها تونس وخاصة دستور 1959، الذي أحل النظام الجمهوري محل الملكي، وضمن ممارسة الحريات العامة: كما أن هذا القانون تبين أثناء الممارسة أنه نص ناقص، وغير منسجم مع وضعية البلاد، وخاصة بعدما وضعت القوانين الأخرى مثل : قانون المسطرة الجنائية  والمدنية والقانون التجاري والقانون العسكري، وقانون الانتخاب، والقانون المنظم للإذاعة والبت…الخ.

كما أن قانون 1956 لم يخصص إلى مقتضيات وشكليات الإيداع القانوني إلا مادتين غامضتين وغير واضحتين. فالعقوبات الواردة فيه متطابقة تماما مع ما هو وارد في التشريع الفرنسي، وهي لا تتلاءم في الغالب مع الواقع التونسي. فإذا أضفنا إلى هذا أنها مستوحاة كليا من التشريع الفرنسي ل 29 يوليوز 1881، فإن ذلك يعد سببا كافيا من أجل المطالبة بإعادة النظر فيه. ولاشك أن تلك هي الحيثيات والحجج التي تم الاعتماد عليها عندما طرح تعديل 1975.

في موريطانيا يمكن القول إن التشريعات التي كانت تحكم الإعلام خلال الفترة الاستعمارية هي التشريعات التي تضبط الأقاليم الفرنسية فيما وراء البحار، كما يمكن القول إنه خلال هذه الفترة لم توجد، في موريطانيا وسائل إعلام حقيقية، بل حتى الإذاعة الوطنية الوحيدة الموجودة كانت تبث برامجها لفترة من الوقت انطلاقا من مدينة “سان الوي” السينغالية والتي كانت هي العاصمة الإدارية لموريطانيا، قبل الاستقلال عام 1960. أما الصحافة المكتوبة فكانت قليلة وضعيفة المحتوى والأطر.

وأهمها “جريدة موريطانيا الجديدة” الحكومية، وقد حلت محلها نشرة “الأخبار” وجريدة “الشعب”، الناطقة باسم الحزب وجريدة “الواقع” تصدر عن نقابة المحامين العرب، والتي كانت تمثل تيارا معينا يتعاطف مع القضايا العربية.

صدر خلال هذه اللحظة في مورريطانيا في سنة 1963 مثلها مثل الدول المغاربية الأخرى قانون للإعلام جاء صورة طبق الأصل لتشريع الفرنسي لسنة 1881. وكما فعلت الجزائر وتونس وحتى المغرب (فيما يخص السمعي البصري) لجأت موريطانيا هي الأخرى إلى احتكار الإعلام المكتوب والسمعي البصري، تمشيا مع الاعتبارات القاضية والداعية إلى قيام الحزب الوحيد، إنه تماما نفس ما حصل في تونس والجزائر.

ولكن على الرغم من احتكار وسائل الإعلام في موريطانيا من طرف الدولة، لم يمنع ذلك من وجود نشرات سرية تعبر عن رأي المجموعات المعارضة للحزب الوحيد، فبعد أحداث 1966 الناتجة عن تدمر الشباب والطبقة العاملة بسبب كبث الحريات، وأيضا بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ولوحظ أن هناك انفتاح نسبي، لم يكن مألوفا خاصة مع نهاية الستينات وبداية السبعينات أي ما بين 1969 و 1971. وهو توجه اختارته الحكومة أنذاك للحفاظ على هيبتها بعد موجة الاحتجاجات. لكن الانفتاح المشار إليه حصر حرية الإعلام المتحدث عنها في داخل منابر الحزب الإعلامية، وذلك بممارسة حق النقد البناء، والنقد الذاتي داخل الحزب الوحيد. ويشكل ذلك حسب القادة الموريطانيين حلا وسطا بين الديكتاتورية الطاغية، التي لا تقبل إلا المدح والثناء، والديموقراطية الكلاسيكية التي تسمح بحريات التعبير، ووسائله بصورة مطلقة وغير مقيدة. وقد تم التأكيد على هذه الاتجاه بصورة واضحة في الميثاق الوطني الصادر في سنة 1975.

ثالثا:  تأثير الاهتمام بحقوق الإنسان على قوانين  الإعلام.

يمكن الاعتراف أن اللحظة التي تبتدأ مع منتصف السبعينات من القرن المنصرم، وهي لحظة اهتمام بتنظيم حرية الإعلام في مختلف الدول المغاربية المدروسة تنظيما مراقبا محسوبا، وأحيانا مقيدا لهذه الحرية. فمن تونس التي ستعرف قانونا لإعلام جديد في 1975، إلى الجزائر حيث وضع الميثاق الوطني سنة 1976 مشددا على حرية الإعلام، والتي لن تضع أول قانون يبين كيفية ممارستها إلا في سنة 1982، مرورا بموريطانيا، حيث تم التأكيد عليها في الميثاق الوطني سنة 1975 وصولا إلى المغرب الذي وضع نظاما للإعلام جديد منذ ربيع 1973 والذي سوف يدخل في رسم الهامش الديموقراطي بدءا من سنة 1975-1976.

كانت الظروف السياسية الدولية والإقليمية، وكذا الظروف السياسية الداخلية التي عاشتها الدول المغاربية ما بين منتصف الخمسينات وبداية الستينات حتى منتصف عقد السبعينات من القرن المنصرم، ذات تأثير على القوانين الإعلامية لهذه الدول- لذلك جاءت الأخيرة معبرة تعبيرا صادقا عن تلك الظروف، وعاكسة لحالتها السياسية ولواقعها المعيش. ففي ظل هذه الشروط بدأت توضع أولى قوانين الإعلام الحقيقية في كل من تونس وموريطانيا، وحتى في الجزائر فيما بعد. كما في ظلها بدأت تظهر بعض ملامح رفع القيود، على الإعلام في المغرب، الذي عرف قانونه الليبرالي تقييدات خطيرة بعد 10 أبريل 1973.

إن التأثير المعلن عنه يقود إلى التساؤل حول كيف قادت التحولات التي عرفها النظام الدولي في اتجاه الانفتاح نحو مزيد من الديموقراطية وحقوق الإنسان، بدءا من منتصف السبعينات، وبالضبط خلال سنتي 1975 و 1976. فهاتين السنتين تعتبران مرجعيتين. ففي 1975 ينعقد مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي الأول في هلسنكي عاصمة فيلاندا، وشدد على مسألة الديموقراطية وحقوق الإنسان وضمنها حرية الإعلام، وحرية الرأي والتعبير. وفي سنة 1976 ظهر متغيران أساسيان، أولهما يخص دخول العهدين الدوليين الصادرين عن الجمعية العامة منذ 1966 والمتعلقين بحقوق الإنسان، حيز التنفيذ في سنة 1976[6]  والمتغير الثاني: هو وصول الديموقراطيين إلى الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية من خلال ولاية جيمي كارتر” ورفع هذا الأخير شعار الديموقراطية وحقوق الإنسان، واشتراط المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة لحلفائها بمدى احترام هذه الأخيرة لحقوق الإنسان.

العوامل الثلاث أثرت بشكل واضح على الدول المغاربية، وأثرت توصيات مؤتمر هلسنكي على الخصوص على المشرع الإعلامي المغاربي. كما أثرت عليه أحداث أخرى أساسا ماحدث في جواره الأوروبي القريب، وخاصة التحول الذي بدأ تفرض نفسها في كل من اسبانيا والبرتغال خلال سنة 1975، و ماحدث في جواره الأوروبي القريب، وخاصة التحول الذي بدأت معالمه تفرض نفسها في كل من اسبانيا والبرتغال خلال سنة 1975، إثر دخولها في حالة الانتقال نحو الديموقراطية. مرة أخرى ليس من باب الصدفة أن تظهر بعد ظهور هذه المتغيرات أولى القوانين الممكن نعتها فعلا بقوانين إعلامية في تونس 1975 في الجزائر سنة 1982[7]، وأيضا إشارات واضحة دالة وردت في الميثاق الوطني الموريطاني 1975، والميثاق الوطني الجزائري سنة 1976.

إن مرحلة السبعينات تمهد لمرحلة أخرى أساسية كان لها أثر على قوانين الإعلام في الدول المغاربية انطلاقا من منتصف الثمانينات إلى حدود بداية الألفية الثالثة، وهذه اللحظة أساسية ومهمة.

نتج عن التغييرات السالفة نشوء قوانين تستحق فعلا أن يطلق عليها مدونات للإعلام في تونس سنة[8]1975، وفي الجزائر قانون 1982[9]. ولكنها في عمقها قوانين، وإن رامت تنظيم حرية الإعلام ظاهريا هي مقيدة لها بفعل ما تضمنته من قيود وشروط مطلوبة لإصدار صحيفة أو منشور دوري. كما هي مقيدة لهذه الحرية بالنظر إلى ما وضعته من خطوط حمر لا ينبغي تجاوزها، وهي كثيرة ومتنوعة. وهي مقيدة أكثر لهذه الحرية بتحويلها قانون الإعلام إلى قانون جنائي محض، نظرا لطغيان المواد المتضمنة للغرامات والعقوبات على بنوده. والمعضلة هي أن أكبر مقيد لحرية الصحافة هو كون هذه القوانين لا تعترف بهذه الحرية إلا للحزب او الدولة المحتكرة لوسائل الإعلام، فهل في ظل هذا الوضع يمكن الحديث عن حرية للإعلام وعن حرية للصحافة، المكتوبة منها أو السمعية البصرية؟ مع ذلك يجب الاعتراف أن هذه القوانين هي مقدمات لقوانين جديدة ناتجة عن الظروف السياسية الوطنية والدولية في كلا البلدين، كما في بقية الدول المغاربية الأخرى.

 

 

 

رابعا: قوانين الإعلام في الدول المغاربية أية علاقة بالانفتاح؟

كانت لحظة الانفتاح لحظة مؤطرة سياسيا لواقع وحال قوانين الإعلام على الصعيد المغاربي. إنها لحظة حاسمة، ومهمة، إذ خلالها ظهرت تشريعات إعلامية جديدة مغايرة لتلك المطبقة في بعض هذه الدول، سواء بعد الاستقلال مباشرة أو حتى للتي طبقت منذ منتصف السبعينات من القرن المنصرم. إنها تشريعات جديدة فيها إضافات لمسندة حرية الإعلام والرأي، لكنها لم تخرج تماما عن روح التشريعات القديمة.

التشريع الصادر 1990 في الجزائر، والذي سبقه في تونس سنة 1988 عملا على إفساح المجال للتعددية الإعلامية في الصحافة المكتوبة، لكنهما كرسا معا احتكار الدولة لقطاع الإعلام السمعي البصري. إنهما بذلك قد سلكا مسلك التشريع المغربي منذ 1958 وصولا إلى 1973. وتبعا لهذا يمكن القول إننا في المنطقة المغاربية بدءا من 1988 و 1990 أمام تشريع مغاربي موحد للإعلام. سمته احتكار الدولة للإعلام السمعي البصري وتحريرها للصحافة المكتوبة.

لعبت التحولات السياسية التي مرت بها الدول المغاربية دورا بارزا في تطور التشريع الإعلامي، بحيث لا يمكن أن يعزل عن ما حدث في تونس سنة 1987، وفي الجزائر سنة 1988. كما لا يمكن فصله عن ما حدث على المستوى الإقليمي المغاربي، عن ظروف تشكيل  اتحاد المغرب العربي، في بداية 1989، بل لا يمكن فصل كل ذلك عن التحولات الناتجة عن تطبيق سياسية الشفافية والانفتاح في الاتحاد السوفياتي سنة 1986، إن هذه العوامل كانت حاسمة في تطور تشريعات الإعلام في الدول المغاربية. وتزداد الصورة وضوحا وتأثرا بالمتغيرات السياسية المشار إليها في علاقة مع تطور القوانين الإعلامية، عندما سيدخل على الخط متغير التحولات العالمية الكبرى ومن أهم صورها: انهيار جدار برلين 1989، ونشوء النظام العالمي الجديد، المروج للأيديولوجية الليبرالية اقتصاديا وللديموقراطية التقليدية، وحقوق الإنسان سياسيا، والمكرس لهيمنة القطب الواحد استراتيجيا وعسكريا.

1) قانون الإعلام في الجزائر من الانغلاق إلى الانفتاح الليبرالي

ففي الجزائر، وفي عمق التحولات الكبرى التي عرفتها البلاد، أثناء حالة الحصار الناتجة عن أحداث أكتوبر 1988، بدأ الحديث يتنامى بشكل مثير حول قضايا حرية الإعلام والتعبير، وحول  دور وسائله في ترسيخ وتركيز الديموقراطية وأيضا حول مهنة الإعلام. فالصحافة قبل المصادقة على دستور 1989 لازالت محكومة بمقتضيات قانون 1982 رقم 08-01. ولكن عندما وضع الدستور، وضع مباشرة بعده قانون رقم 89-11 الذي يسمح للأحزاب السياسية بإصدار الصحف الخاصة بها، الشيء الذي جعل القانون رقم 08-01 بتاريخ 6 أبريل 1982 غير ذي جدوى ولا معنى، خاصة وأن دستور 23 فبراير 1989، قد خصص عدة مواد لحرية الرأي والتعبير بشكل صريح، وهي المواد التالية: المادة 35 والمادة: 36- والمادة: 39. من الواضح أننا لازلنا حتى الآن على الرغم من النص الدستوري، ومن القانون رقم: 89-11 لسنة 1989، أمام صحافة  تابعة للدولة بالشكل الكامل. فالوضع القائم يحتم على المشرع تنظيم مجال الإعلام بما يتماشى ومقتضيات الدستور، ومع واقع الظروف السياسية، ما يفرض عليه أن يأخذ بعين الاعتبار تعددية الرأي والفكر والإعلام، فالحقل الإعلامي صار متعددا، مما يطرح على المشرع الإجابة على الأسئلة المحيرة التالية: أية صحافة؟ لمن ستكون مملوكة في المستقبل؟ هل هي صحافة الحكومة؟ أم صحافة حزبية، أم صحافة رأي؟ أم صحافة ذات طابع تجاري؟[10].

لقد جاء قانون 1990 مجيبا على مختلف هذه التساؤلات. فإلى جانب تأكيده على إمكانية الأفراد والجمعيات ذات الطابع السياسي على إصدار الصحف وامتلاكها، فإنه أكد على أن الدولة ستحتفظ بموجبه على  احتكار التلفزيون- والتوزيع السينماتوغرافي وكذلك استيراد وتوزيع الصحف الأجنبية. كما أن أهم شيء في هذا القانون هو تأكيده على أن كل نشرة جديدة ينبغي إجباريا أن تنشر باللغة العربية، ولكن في نفس الآن نجد المادة: 21 من قانون الجمعيات السياسية تجيز لهذه الأخيرة إصدار النشرات باللغات الأجنبية[11].

ويشتمل أيضا هذا القانون على حوالي: 43 مادة ذات الطابع الجنائي كلها تهدف إلى الحفاظ على النظام العام. والأخلاق والآداب العامة وإلى حفظ الأسس السياسية للدولة، ومؤسسات الدولة الحساسة وتمنع السب والقذف والتشهير…الخ. وهذه الأخيرة من شأنها أن تحد من ممارسة الصحافة ومن حرية الإعلام.

ولكن هل استطاعت الجزائر أن تلتزم ببنود هذا القانون على علاته بالخصوص وأن الشرط السياسي المصاحب لتطبيقه بعد مرور سنتين أو أقل صار يميل نحو الانغلاق والتشديد بعد التراجعات التي ستعرفها الحياة السياسية في الجزائر خاصة بعد 1992.

يبدو أن عملية ربط التحولات السياسية بتطور التشريعات الإعلامية في الدول المغاربية الأربع محل هذه الدراسة- قد بدأت تتضح أكثر فأكثر بالخصوص في ظل الأوضاع السياسية التي تمر بها المنطقة المغاربية في نهاية عقد الثمانينات من القرن المنصرم. فأحداث أكتوبر في الجزائر قادت إلى مراجعة وتعديل قانون الإعلام الجزائري لسنة 1982. وأحداث 7 نونبر في تونس 1987، دفعت إلى مراجعة القانون التونسي للإعلام الموضوع في سنة 1975 ليحل محله قانون جديد في سنة 1988.

2) قانون الإعلام في تونس والليبرالية المراقبة

في تونس ظهرت الإرهاصات الأولى لتحرير الصحافة في عقد الثمانينات منذ سنة 1981، واستمرت، ولكن بشكل مضبوط وموزون يجعل كل خيوط الإعلام بين يدي سلطة الحكومة. فبعد 7 نونبر 1987 تم تعديل قانون الإعلام لسنة 1975[12] بموجب قانون جديد هو القانون رقم: 89 المؤرخ في فبراير 1988. ولكن على الرغم من هذا التعديل فإن حرية الصحافة في تراجع وترد مقارنة مع ما كانت عليه مباشرة بعد 7 نونبر 1987. ويتجلى هذا التردي وهذا التراجع في العقوبات القاسية الموجهة للصحفيين، وفي تدخلات الإدارة ضد الصحافة.

فخلال هذه الفترة كانت هناك محاكمات تحت مبرر السبب والقذف والإهانة، ونشر الأنباء الكاذبة…الخ. كما توالت وبكثرة عمليات حجز الصحف وتوقيفها من قبل الإدارة وباستمرار وتحت أوامر تعطى هاتفيا.[13] وعرف حق المواطن في الإعلام انتهاكات جسيمة بفعل إرغام الصحافة على السكوت إزاء بعض القضايا ذات الطابع السياسي. ثم إن نظام الرقابة القبلية الذي عاد إلى الظهور وبقوة بعد حرب الخليج الثانية، كان من نتائجه أن صدرت العشرات من النشرات وفيها بعض الفراغات البيضاء ما يعني أن هناك أخبار تم حذفها من قبل الرقيب.

الوقائع السالفة تبين أن هناك تناقض مثير ما بين المقتضيات المعلن عنها من طرف القانون رقم 89 الصادر في فبراير 1988، واحترام تطبيقاته الفعلية. وتظهر الفجوة كبيرة بين واقع النص القانوني، وبين الممارسة على أرض الواقع. وهذه ظاهرة تهم كل الدول المغاربية. إذ قد يكون النص ليبراليا براقا ولكن يفرغ من محتواه عند التطبيق بفعل شطارة البيروقراطية، وبفعل التطبيق السيء لمضمونه. إن هناك تناقض بين ما هو مرغوب فيه، وبين ما هو كائن وحاصل على أرض الواقع، وهناك تناقض بين ذاك وبين المبادئ المعلن عنها كمفتضيات قانونية وأيضا معلن عنها كخطاب ليبرالي.

ويستخلص في النهاية من قراءة القانون التونسي للإعلام لسنة 1988 أنه على الرغم من طموحه إلى مراجعة سلسلة من التقيدات المدرجة في بنود قانون 1975 والتي تكبل حرية الإعلام. وأيضا على الرغم من كونه جاء في ظرفية تتسم بنوع من الانفتاح الداخلي، فإنه لم يرض الفاعلين الإعلاميين وكذا الحقوقيين في تونس. فالقانون إياه لازال ينعت بكونه قانونا جنائيا للإعلام، نظرا لثقل وتعدد العقوبات الحبسية والغرامات المالية المضمنة فيه، والتي من شأنها عرقلة وتقييد حرية الإعلام، وحرية التعبير. ويتضح من قراءة بنوده أننا فعلا أمام قانون جنائي وليس قانون للإعلام[14]. وربما أن هذا التشدد المقرون بقضايا الحفاظ على النظام العام، والأمن العام…الخ، يبرز حسابات الدولة الراغبة والمتمسكة كالعادة بالتحكم في الإعلام وجعله تحت جناحها. ولا سبيل إلى إدامة هذه السيطرة إلا بوضع قانون من هذا القبيل، يكرس سيطرتها، ويقمع كل متطاول راغب في التعبير الحر عن الرأي بشكل مطلق.

3) قانون الإعلام في موريطانيا وإرث الانغلاق

وفي موريطانيا حيث حدث إنقلاب عسكري في عام 1978 قد لا يمكن فصل ما حصل من تطور في مجال التنظيم القانوني للإعلام عن التطورات السياسية التي عرفها هذا البلد

خلال فترة الحكومات الاستثنائية التي عرفتها موريطانيا ما بين 1978 و 1992، وهي حكومات استثنائية عسكرية. عملت هذه الحكومات في مجال الإعلام على تنظيم هذا القطاع وفقا للقرارات والقوانين الصادرة في فترة الحكومة المدنية الأولى. وهذا ما يعني أن هناك فراغ قانوني كبير على مستوى التنظيم والتقنين القطاعي والمؤسساتي للهيئات الإعلامية[15].

فبعد قانون 1963 الذي أستنسخ من القانون الفرنسي، قد وضع قانون جديد ليحل محله، في ظل التحول الذي عرفته موريطانيا. وقد جاء هذا القانون مشخصا في الأمر القانوني الصادر بتاريخ 25 يوليوز 1991 وهو يتعلق بحرية الصحافة: نص هذا القانون على “… حق كل واحد في معرفة حقيقية المسائل التي تعنيه، أو يخص بلاده، أو تتعلق بالقضايا العالمية، باعتبارها إحدى حريات الإنسان الأساسية التي يتمسك بها الشعب الموريطاني، شأنها شأن حرية التعبير “.

ومع ذلك فإن الأمر القانوني هذا يحد من حرية الإعلام ومن حرية الرأي والتعبير، لإخضاعه إصدار أية صحيفة لإذن وزارة الداخلية المسبق، وفق ما تضمنته المادة 11 من هذا القانون. كما أنها تخضع الصحفي ومهنته بشكل عام لعقوبات غير متناسبة مع الجنح المرتكبة بواسطة الصحافة.

أما القانون رقم 94-19 بتاريخ 18 يوليوز 1994، والذي ينظم بعض النشاطات العمومية في مجال السمعيات البصرية، فإنه قد أخضع تلك النشاطات للموافقة المسبقة من قبل القطاع المكلف بالإعلام. لكن هذا القانون أضحى متجاوزا لعدم مسايرته للتطورات التي عرفها القطاع.

هكذا في موريطانيا كما في بقية دول المغرب العربي، حصلت تطورات سياسية، خاصة بعد وضع دستور 20 يوليوز 1991 الذي فتح الباب أمام الصحافة المستقلة، وهذه الأخيرة عرفت نموا لافتا منذ ظهور المسلسل الديموقراطي الذي بدأ مع فكرة التعددية المكرسة بموجب دستور 1991، والتي فصلها الأمر القانوني الصادر بتاريخ 25 يوليوز 1991 المتعلق بحرية الصحافة. وأثرت التغيرات السياسية تلك على القطاع الإعلامي وعلى القانون المنظم له. ولاشك أن للتحولات الدولية وكذا الإقليمية بعض التأثير القوي على تنظيم التعددية الإعلامية في موريطانيا، تماما كما حصل في كل من تونس والجزائر خلال نفس الوقت.

من المفيد إعادة التذكير من جديد أن الشروط السياسية الوطنية الداخلية المتأثرة بالظروف الدولية قد عملت على بلورة الموجة الجديدة من القوانين الإعلامية، عبر سنوات 1988 و 1990 و 1991 و1993 …الخ. فمنذ حدوث الانفتاح في الاتحاد السوفياتي مع سياسة البرسترويكا والشفافية في سنة 1985، لوحظ أن الدول المغاربية صارت تعرف تململات، من أهم نتائجها ما حصل في تونس 1987 وفي الجزائر 1988. ما نتج عنه على المستوى الدستوري في الجزائر دستور 1989 وعلى المستوى القانوني الإعلامي قانون 1990.

ومن نتائجها أيضا ما حدث في المغرب سنة 1990 عندما قدمت المعارضة الوطنية ملتمسا ضد سياسة الحكومة آنذاك بغية إسقاطها، وينضاف إلى ذلك الأحداث الاجتماعية التي عرفتها مدينة فاس في شهر دجنبر 1990[16]، وما واكب ذلك من انفتاح ملموس في مجال الحقوق وبالأساس مجال حرية الإعلام والرأي والتعبير الشيء الذي سيترك الباب مفتوحا أمام تطورات مهمة ستطال القوانين الإعلامية في الدول المغاربية.

خامسا: التشريعات الإعلامية المغاربية بداية نهاية الاحتكار

خلال اللحظة الممتدة ما بين منتصف السبعينات من القرن المنصرم وبداية الألفية الثالثة ستعرف الدول المغاربية الأربعة موجة من القوانين الإعلامية الميالة في عمومها نحو الليبرالية والمتجهة نحو تحرير الإعلام من سيطرة الدولة ومن هيمنة الحزب الوحيد.

ففي المغرب عرفت هذه المرحلة نقاشات واسعة حول حرية الإعلام وحول إعادة النظر في القيود التي فرضتها تعديلات 10 أبريل 1993 على هذه الحرية، ما أطلق العنان لنقاش المعمم حول الإعلام في لحظة حاسمة من تاريخ المغرب السياسي، إثر وضع إصلاحات دستورية سنة 1992. لقد شدد دستور 1992 على ” اعتراف المغرب بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا”. لقد استتبع هذا النص تعديل عدة قوانين، قائمة ووضع قوانين أخرى جديدة، والتوقيع على سلسلة من الاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان. لكنه استلزم أكثر من كل هذا إلغاء قانون 1936 المسمى في أدبيات الحركة الوطنية ” ظهير كل ما من شأنه”، وهو قانون استعماري استمر تطبيقه على الصحافة الوطنية إلى حدود إلغائه في سنة 1994.

لقد تعالت الأصوات من أجل الدعوة إلى عقد “ندوة وطنية حول الإعلام” تمشيا مع روح الانفتاح، هذه الندوة التي انعقدت في ربيع 1993، تناولت بالدرس والتحليل مختلف جوانب القصور التي يشكو منها الإعلام في المغرب، وبالأساس الجوانب القانونية من هذا القصور. وتمخضت عنها توصيات لمعالجة الثغرات القانونية الكامنة في قانون الإعلام المغربي، لكن التوصيات إياها لم تر النور إلا بعد مجيء حكومة “التناوب التوافقي”، بل عند نهاية ولايتها سنة 2002.

فخلال الفترة الممتدة بين المناظرة الوطنية للإعلام وتعديل قانون الإعلام في 2002، كانت هناك محاولات لإدخال تعديلات على قانون 1973 من طرف أحزاب المعارضة وكمثال على ذلك ما تقدمت به أحزاب الكتلة الديموقراطية من مقترح قانون يهدف إلى إعادة النظر في المادة 77 من قانون الإعلام والاتصال المغربي، لكن مقترحها ذاك قد رفض من طرف الأغلبية في البرلمان[17].

عدل قانون الإعلام مكتوب بموجب القانون رقم 00-77 لسنة 2002 كما صدرت قوانين أخرى تهدف إلى تحرير قطاع السمعي البصري ورفع احتكار الدولة عنه. وإنشاء “الهيئة العليا للإعلام”. تم كل ذلك خلال سنوات 2002 و2005. ومع ذلك فإن قانون الإعلام المكتوب لازال يعاني من ثغرات كثيرة مثيرة للجدل من قبل رجال الإعلام ومن قبل الحقوقيين والقانونيين.

الكثير من الثغرات التي يشكو منها القانون المغربي تتلاقى مع ثغرات يعاني منها التشريع التونسي الذي خضع هو الآخر لعدة ترميمات، على إثر حركة 7 نونبر 1987. هكذا مثلا أعلن الرئيس التونسي في تصريحه بذات التاريخ أن هناك لجنة تدرس إعادة النظر في القانون 1975، كما أن هناك نص قانوني معروض على البرلمان في سياق التحولات التي تعرفها تونس. ففي 2 غشت 1988 أدخل أول تعديل على قانون 1975 بموجب القانون رقم 89 -1988. وقد تم استكمال هذا التعديل بتعديل ثان لقانون الإعلام بعض مرور خمس سنوات وذلك بموجب القانون رقم 43 بتاريخ 3 ماي 2001. وأضيف إلى هذه السلسلة من التعديلات تعديل 2006.

أما موريطانيا التي عاشت تجربة ديموقراطية مجهوضة، فإنها كادت أن تعطي مثلا ينبغي احتداؤه من بقية الدول المغاربية، فإنها كذلك عاشت نفس التجربة من أجل إعادة النظر في قانون الإعلام السابق الذي أحلت محله قانونا جديدا، مؤطرا للظروف المتسمة بالانفتاح والتعددية. وهكذا وضع قانون رقم 017 المتعلق بحرية الصحافة بعد مصادقة المجلس العسكري للعدالة والديموقراطية عليه، بتاريخ 12 يوليو 2006.

القوانين المغاربية المشار إليها في هذه الدراسة بها ثغرات، و تعاني من نواقص، وهي معرضة لانتقادات شديدة من طرف الجسم الإعلامي في مختلف الدول المبحوثة. وتكاد الانتقادات الموجهة لكل قانون، ولممارسات تطبيقه تكون متطابقة وموحدة، فمن المغرب فتونس، والجزائر وموريطانيا. تطرح نفس الانتقادات ونفس الملاحظات حول هذه القوانين، وما تتضمنه من مظاهر معيقة لحرية الإعلام.

سادسا: المظاهر المعيقة لحرية الإعلام في الدول المغاربية

لم يمر إلا وقت وجيز على وضع الموجة الجديدة من قوانين الإعلام في هذه الدول، حتى ارتفعت الأصوات للمناداة بضرورة تعديلها. ففي المغرب حيث اشتدت الخلافات بين واضعي مشروع قانون الإعلام الذي سيصبح قانونا للإعلام عام 2002، ولم يؤخذ بالملاحظات الجوهرية التي أدلى بها الفاعلون الإعلاميون والحقوقيون، الذين أبرزوا مظاهر الخلل في هذا المشروع، المتضمن لكثير من الخطوط الحمر. لذلك لم يمر إلا وقت وجيز حتى صارت المطالب تتقوى منادية بضرورة إعادة النظر في القانون رقم 00-77 لسنة 2002 وقد وضعت الحكومة منذ 2006 مشروعا لهذا الغرض يهدف إلى سد مجموعة من الثغرات التي ظهرت في قانون 2002. وعلى رأسها إلغاء ما كان سائدا من سلوك ناتج عن تصرف البيروقراطية الإدارية، مثل فكرة الوصل المؤقت والوصل النهائي، الذي حول بقدرة قادر مع القانون أعلاه إلى قاعدة قانونية[18]. ويهدف المشروع الجديد إلى إلغاء كل العقوبات الحبسية، ما عدا تلك التي تتعلق بالمساس بالحياة الخصوصية للأفراد، أو المتعلقة بالمساس بالأسس الدينية للدولة، مع إعطاء تحديد دقيق لما المقصود بها في ديباجة القانون، إضافة إلى تحديد مفهوم النظام العام والأمن العام بدقة. كما أن هذا المشروع جاء شاملا لقانون الاعلام المكتوب، فتضمن محتويات قانون الصحفي المهني الذي لازال محكوما حتى الآن بقانون 1942 والمعدل في سنة 1995. وتناول كذلك إنشاء مجلس أعلى للصحافة، تماما كما هو عليه الأمر في مصر وفي الجزائر.

ففي الجزائر منذ السنوات الأولى من الألفية الثالثة طرح مشروع إعادة النظر في قانون 1990 المعدل بقانون 1993، وهما قانونان بهما بعض من الليبرالية، ولكن في حاجة إلى تطويرهما أكثر لكي يساير مطالب الإعلاميين ومطالب الحقوقيين. وتوالت مطالب إعادة النظر في القوانين المنظمة للإعلام في الدول المغاربية الأخرى في منتصف العشرية الأولى من الألفية الثالثة، بل صدرت تصريحات بالاستجابة لهذه المطالب كما حدث في تونس مؤخرا. عندما أعلن الرئيس بنعلي يوم 27 ماي 2005 بمناسبة الاحتفال باليوم الوطني للثقافة، إلغاء إجراء الإبداع القانوني، والعقوبة المترتبة عنه، كإجراء لتحرير الصحافة والدفع بحرية النشر إلى الأمام في تونس. وقد صدر في سنة 2006 قانون بهذا الشأن.

لازالت هناك مظاهر كثيرة تعيق حرية الإعلام في الدول المغاربية كما لازالت المطالب تتوالى من طرف المشتغلين في الإعلام والحقوقيين في إعادة النظر في القوانين المنظمة للإعلام، في هذه الدول بغية جعلها أكثر تحررا وليبرالية ومتخلصة من المظاهر المعيقة لها:

يمكن أن ترصد هذه المظاهر انطلاقا من محتوى النص القانوني، كما يمكن أن ترصد خارج النص القانوني: أي من خلال التعامل معه من طرف الإدارة، وما يفرزه ذلك من سلوك بيروقراطي غالبا ما يشوه بل يحرف مضمون النص بمحاولة تفسيره تفسيرا ليس هو ما يقصده المشرع، ويمكن كذلك رصد المظاهر المعيقة لحرية الاعلام، وهي كامنة بكثرة في متن النص القانون ومنطوقه. وحاضرة فيه بشكل قوي وواضح، وقد شكل عنصر عرقلة لحرية الاعلام في مختلف الدول المغاربية. وسوف تتم الاشارة هنا إلى بعضها فقط على النحو الآتي:

1) فكرة الوصل والجهة المتلقية للتصريح

يبدأ العطب عند تحديد الجهة المتلقية لتصريح من أجل إصدار جريدة أو منشور دوري، ففي بعض القوانين، يكون القضاء هو صاحب الاختصاص كما هو الشأن في المغرب، حيث يوجه التصريح إلى وكيل الملك بالمحكمة الابتدائية التي توجد الجريدة تحت ولاية نفوذها القضائي. هذا التوجه فيه نفحة من الليبرالي، على اعتبار أن القضاء مفروض فيه أن يكون محايدا. كرس هذا المبدأ في المغرب منذ صدور ظهير 15 نونبر 1958، ولم يتم الخروج عنه حتى خلال سنوات القمع والرصاص، عندما أدخلت تعديلات على قانون الإعلام قيدت كثيرا حرية الإعلام، وذلك بموجب قانون 10 أبريل 1973. وهو كذلك ما عليه قانون رقم 00-77، الذي جاء ببدعة الوصل المؤقت والوصل النهائي، وهناك رغبة قوية لتخلي عن هذا الإجراء حسب ما كان متضمنا في نص مشروع القانون الأولي المعروض الآن على البرلمان .

وفي الجزائر فإن الأمر مر بمرحلتين: الخضوع لنظام الإذن في إصدار الصحف المكرس منذ 1963، والذي أعيد تأكيده بقوة في قانون 1982. وبعد أحداث 1988 حصل تطور وتغيير في هذا الصدد في اتجاه نوع من الليبرالية التي عكسها قانون 1990، فالمادة: 14 منه تنص على:” … إصدار أية نشرية دورية حر، غير أنه يشترط لتسجيلها ورقابة صحتها تقديم تصريح مسبق في ظرف لا يقل عن ثلاثين يوما من صدور العدد الأول، ويسجل التصريح لدى وكيل الجمهورية المختص إقليميا بمكان صدور النشرية…. ويسلم وصل بذلك في الحين….”. والمقصود هنا بالنص على تسليم وصل في الحين هو قطع الطريق على كل سلوك بيروقراطي من شأنه عرقلة إصدار الصحف عندها يتوفر التصريح على كل الوثائق المطلوبة. ولكن المادة: 6 من هذا القانون تنص على أن إصدار نشرة بلغة أجنبية يستلزم الحصول على رأي المجلس الأعلى للصحافة. ومع ذلك فإن هناك من يرى أنه على الرغم من ذلك فإن هذا القانون يعد ثورة حقيقية في تاريخ الصحافة الجزائرية[19].

في موريطانيا تؤكد المادة: 9 من القانون رقم: 017 لسنة 2006 حول حرية الصحافة على ” يمكن نشر أية جريدة دون إذن مسبق ودون دفع ضمانة بعد الإعلان المنصوص عليه في المادة:11″ ونصت المادة 11على “قبل نشر أية صحيفة أو دورية في الجريدة الرسمية يتم إشعار النيابة العامة أو المحكمة المختصة بذلك عن طريق إعلان…”. إن التشريع الموريطاني اعتمادا على هذا هو الآن متشابه مع المغربي والجزائري، بحيث يوجه التصريح إلى القضاء باعتباره جهازا محايدا. ولكن لم يحددها إذا كان التصريح متبوعا بوصل أم لا، لقد سكت التشريع الموريطاني عن مسألة الوصل.

أما التشريع التونسي فقد جاء مخالفا لهذه التشريعات من حيث الجهة المتلقية للتصريح. فالتصريح في تونس يقدم إلى السلطة التنفيذية أساسا إلى وزارة الداخلية. فعلى الرغم من التعديلات المدخلة على القانون التونسي لسنة 1975 في سنة 1988 و 1993، وسنة 2001 فإن هذا الأخير لازال متشبثا بفكرة التصريح المقدم إلى الجهاز التنفيذي. عكس التشريعات المغاربية الثلاث. ولكن يسير في ركبها عندما نص على تلقي الوصل فور إيداع التصريح. المادة 13: من هذا القانون تنص على: “يقدم إلى وزارة الداخلية قبل إصدار أية نشرية دورية إعلان في كاغد متنبر وممضى من مدير النشرية الدورية، ويسلم وصل في ذلك…”[20] فإذا كان التشريع التونسي المتأثر بالتشريع الفرنسي مثله مثل التشريعات المغاربية الأخرى ينص على تقديم الوصل فور إيداع التصريح، إلا أن ذلك قد يمكن التحايل عليه سواء في تونس أو في الجزائر كما هو عليه الأمر في المغرب. لكن الإأشكال في تونس أن التصريح قد يتحول إلى ترخيص خاصة لما يقدم للسلطة التنفيذية التي هي خصم وحكم في آن واحد وحتى في الجزائر والمغرب، حيث يقدم التصريح إلى السلطة القضائية، فإن هناك بون شاسع بين النص القانوني وتطبيقه على محك الواقع، مما يحول نظام التصريح الليبرالي إلى نظام للترخيص. ففي المغرب مثلا كانت دائما هناك إمكانية الالتفاف على هذه الصيغة الليبرالية في السابق من قبل السلطات الإدارية خلال الفترة ما بين 1973 إلى 2002،. ولكن بعد ذلك جاء القانون: 00-77 بتقنية الوصل المؤقت والوصل النهائي، وهذه تقنية ذكية لتلخص من الصحف والنشرات الغير مرغوب فيها.

 

 

2- التدرع بالنظام العام

وهو لفظة مهلهلة فضفاضة، غالبا ما تستخدم كوسيلة لكبح جماح الصحافة في الدول المدروسة، قصد منع إصدار وتداول الصحف. ليس هناك أدنى خلاف على أهمية ضرورة الحفاظ على النظام العام وعلى الأمن الداخلي والخارجي للدول[21]، إلا أن الخطير هو الاستنجاد بالنظام العام، ويترك تفسيره إلى السلطات الإدارية، وحتى القضائية بدون تحديده.

فكرة النظام العام، قد تتسع وقد تضيق حسب الشروط والظروف السياسية التي تمر بها الدولة. وهو أمر مفروض احترامه وعدم المساس به. لكن ما تجدر الإشارة إليه هو أن المساس بحرية الرأي والتعبير وحرية الإعلام  هو في حد ذاته مساس بالنظام العام، على اعتبار أن هذه الحريات هي مكون من مكوناته، ولا ينبغي الاتفاق على ما يخالفها فالمساس بحقوق الإنسان عموما هو مساس بالنظام العام.

أثبتت عدة أحكام صادرة عن القضاء الفرنسي، أساسا عن مجلس الدولة الفرنسي بشأن حرية الإعلام، كيف يضيق وكيف يتسع مفهوم النظام العام؟ يتسع خلال فترة الاضطرابات، مثل الحرب العالمية الأولى والثانية، ويضيق عندما يكون هناك هدوء واستقرار سياسي.

في كل التشريعات المغاربية هناك إشارات قوية إلى معاقبة الصحف وكل وسائل الإعلام التي تنشر ما من شأنه المساس بالنظام العام، وبأمن الدولة الداخلي والخارجي… الخ. ففي الجزائر مثلا نجد ان قانون 3 أبريل 1990 يشدد في نصه على عقوبات قاسية في حق من ينشر أنباءا تمس بسلامة الدولة، أو بالوحدة الوطنية، أو تحقر الإسلام، أو تكشف عن الأسرار الاقتصادية للدولة، و الأسرار ذات الطابع الاستراتيجي، أو تكشف عن الأسرار العسكرية او الأمنية للدولة. ونجد ذات الشيء في مختلف التشريعات المغاربية الأخرى. ففالمغرب مثلا تتناول المادة 77 هذه الأمور كما تتناولها مواد أخرى موزعة على مختلف مفاصيل القانون رقم 00-77.

إن النظام العام وأمن الدولة الداخلي والخارجي وما يتعلق بالنظام العام والأخلاق العامة والصحة العامة، أمور اهتمت بها المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، مؤكدة على أن الدولة قد تلجأ إلى تقييد حرية الرأي والتعبير لحمايتها في بعض الظروف الاستثنائية. ويكون ذلك بشكل مؤقت، يزول بزوال الظروف التي استوجبته ويتم بموجب قانون.

والملاحظ أن الدول المغاربية تبالغ كثيرا في الاستنجاد بالمساس بالنظام العام، والأخلاق والآداب العامة، وأمن الدولة. وعلى العموم تبالغ في قمع حرية الرأي والتعبير تحت مبرر تهديد الأسس السياسية والدينية للدولة. ويطال هذا الإجراء وسائل الإعلام المكتوب الخارجة من تحت سيطرة الدولة، وخاصة الإعلام المستقل أو المعارض. وقد يتحول تبعا لما سبق قانون الإعلام لهذه الدول عمليا إلى قانون جنائي للإعلام، بحكم ما يتضمنه من عقوبات وغرامات

3) قانون للإعلام أم قانون جنائي للإعلام؟

تكاد كل التشريعات المغاربية المبحوثة توحي بأنها هي فعلا قانون جنائي للإعلام وذلك بفعل مكانة النصوص الزجرية المتضمنة فيها، والتي تكاد تغطي جزءا كبيرا منها. فرغم محاولة هذه التشريعات إلغاء بعض العقوبات الحبسية والتخفيف من البعض الآخر، إلا أن ما تبقى منها لازال ثقيلا جدا. فالتشريع المغربي بعد تعديله سنة 2002 حاول حذف مجموعة من العقوبات الجنائية. وهناك الآن في المشروع المقدم للبرلمان إلغاء لهذه العقوبات في كثير من القضايا، ما عدا تلك المتعلقة بالأسس السياسية والدينية للدولة. ويدخل ضمن هذا، بمعنى آخر ما حصل في تونس من نقل لمجموعة من العقوبات الجنائية من قانون الإعلان والاتصال وإلحاقها بقانون العقوبات. فالباب الثالث من القانون التونسي الخاص “بالتعليق على الجدران والنقل والبيع بالطريق العام”، قد ثم نقله، وإدراج العقوبات والواردة فيه في القانون الجنائي كما هو الشأن مثلا بالنسبة للمادة 35 التي أدرجت في القانون الجنائي، تحت عدد 315 مكرر بمقتضى القانون الأساسي عدد 43 لسنة 2001 المؤرخ في 2 ماي 2002. والمادة 37 التي أدرجت كذلك في القانون الجنائي، تحت عدد 303 مكرر بمقتضى نفس القانون. والمادة 38 المدرجة كذلك في القانون الجنائي، تحت عدد 303 مثلث، و أيضا المادة 39 التي سحبت منه وأدرجت في القانون الجنائي تحت عدد 321 مكرر [22].

ومعلوم أن هناك عقوبات ثم إلغاؤها نهائيا في ظل المرحلة الانتقالية بعد التحولات التي عرفتها تونس بدأ من 7 نونبر 1987 ويتعلق الأمر بالمادتين 40 و41 اللتين ألغيتا بالقانون رقم 89 بتاريخ 2 غشت 1988.

ومع ذلك وعلى الرغم من هذه التنقيحات التي عرفها التشريع التونسي لسنة 2001 وما تلاها من حذف وإلغاء لبعض العقوبات، لازال المشتغلون في حقل الإعلام يطالبون بإدخال تنقيحات أخرى، على هذا القانون يكون من شأنها إلغاء سائر العقوبات الحبسية. إنه نفس ما يطالب به المهنيون والحقوقيون في المغرب او الجزائر أو موريطانيا. هكذا تتعالى الأصوات المطالبة بذلك خاصة بعدما لوحظ أن هناك توجه عام لسائر هذه الدول لإلغاء بعض العقوبات المخففة أصلا كما حدث في المغرب سنة 2002.

وفي الجزائر حصل تطور فيما يخص المقتضيات المتعلقة بالعقوبات الجنائية بين 1982 و1990، وردت هذه الأخيرة في الباب الخامس وامتدت من المادة 85 إلى المادة 128 أي ما يعادل 43 مادة، ما يدفع إلى الاعتقاد أننا فعلا أمام قانون جنائي للإعلام وليس أمام قانون للإعلام.

وينطبق هذا على قانون 1990 رغم أنه حاول التخفيف من العقوبات الجنائية إذا ما قورن مع قانون 1982، وذلك تمشيا مع ما يطمح إليه من ليبرالية، إلا أنه لا يزال يعتبر مثله مثل المغربي والتونسي. إن ذاك ما تعبر عنه المواد 77-88-81-82-83-86…الخ.[23]

وينبغي التذكير على أن التخفيف من العقوبات الجنائية على ضعفه أمر مرتبط بالتطورات السياسية التي مرت بها هذه الدول. كما أنه مرتبط بالتطورات التي عرفتها حقوق الإنسان على المستوى العالمي، وخاصة في ظل النظام العالمي الجديد، حيث عولمة الليبرالية، والديموقراطية وحقوق الإنسان. وبالتالي: عولمة حرية الإعلام، وعولمة حرية الرأي والتعبير.

4) من القانون الجنائي للإعلام إلى الاستنجاد بالقانون الجنائي

كثيرا ما يتم اللجوء إلى تطبيق القانون الجنائي في قضايا الجنح والجرائم المرتكبة بواسطة وسائل الإعلام، مع العلم أنه ليست هناك جرائم صحافية ولكن هناك دائما جرائم ترتكب عن طريق وسائل الإعلام. فالتشريعات المغاربية للإعلام، في المغرب أو الجزائر وتونس فموريطانيا غالبا ما ينظر إليها من طرف الدارسين على أنها قوانين جنائية للإعلام. مع ذلك وبالرغم من هذا التقدير، فإنه غالبا عند محاكمة الصحف ما يتم الاستنجاد بالقانون الجنائي في كافة الدول المدروسة بغية تطبيق بنوده على القضايا الإعلامية، ويحدث ذلك عندما يراد تشديد العقوبة على المتهم، وعندما يقدر أن العقوبات الواردة في قانون الإعلام غير كافية، رغم أنها عقوبة متشددة أصلا، وفق نص قانون الإعلام، فيستنجد بالقانون الجنائي ليتم التنقيب من خلاله على عقوبات أشد وأردع من الواردة في قانون الإعلام. الإشكال المطروح هنا هو أن قانون الإعلام قانون له ذاتية وما هو مضمن فيه من عقوبات مشددة هي ما ينبغي تطبيقه في محاكمة وسائل الإعلام.

لكن غالبا ما يتم اللجوء إلى القانون الجنائي بشكل متواتر، ويمكن أن نعطي في هذا الصدد أمثلة من المغرب حيث يلجأ القضاء في كثير من الحالات إلى تطبيق قواعد القانون الجنائي على قضايا تهم الإعلام. وغالبا ما يعمد إلى تطبيق المادة: 87 من القانون الجنائي في عدة محاكمات. ويتم الحكم على الصحفيين بالمنع من ممارسة المهنة لمدة معينة. قضية مصطفى العلوي مع وزير الخارجية محمد بنعيسى، وقضية علي المرابط…الخ.

إن السلطات في الدول المغاربية على اختلاف أوضاعها، غالبا ما تلوح باستخدام القانون الجنائي في محاكمة الصحف، وتستخدم هذا القانون “كسيف ديموقليس” لتهديد الصحفيين وممارسة الضغط على الصحافة. وتتمادى هذه الدول أكثر في هذا الاتجاه بالخصوص عندما وضعت قوانين لمكافحة الإرهاب (حالة المغرب بعد أحداث 16 ماي 2003). وهناك صور أخرى كما هو الأمر في الجزائر عندما طرح أمام الجمعية الوطنية تعديل للمادة: 144 مكرر من القانون الجنائي التي تتضمن: عقوبات من 2 إلى 12 شهر سجنا وغرامة مالية بين 50.000 و 250.000 دينار عندما تتعرض الصحافة لرئيس الجمهورية، بالسب أو القذف أو التجريح. وتطبق نفس العقوبات عندما يمارس نفس الشيء ضد البرلمان، أو الجيش الوطني الشعبي.

من المفروض اليوم التأكيد على ضرورة تعديل قانون الإعلام في كل من المغرب وتونس والجزائر وموريطانيا بإلغاء ما أدخل فيه من عقوبات تهم الجرائم والمخالفات الصحفية. انسجاما مع التوجه العالمي، كما يطالب بذلك مقرر الأمم المتحدة “حول حرية الرأي والتعبير”. ففي 18 يناير 2000 طالب مقرر الأمم المتحدة من جميع الحكومات أن تسهر  على أن لا تكون جرائم الصحافة معاقب عليها بموجب عقوبات حبسية. ماعدا الجرائم المتعلقة بالعنصرية، والتمييز العنصري، والدعوة إلى العنف. فالحبس كعقوبة مهدد لحرية التعبير عن الرأي ، واللجوء إليه فيه مساس خطير بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا. ويبدو أن الفاعلين الإعلاميين والحقوقيين، كما السياسيين أدركوا مغزى اهتمام الأمم المتحدة بالموضوع لذلك كثرت المناداة بإلغاء كثير من العقوبات الجنائية من قانون الإعلام، وبدأت حتى بعض الاستجابات الخجولة لذلك هنا وهناك.

ويتضح من كل ما سبق أن قوانين الإعلام في الدول المغاربية عرفت تطورات، وأحيانا تراجعات فيما يخص حرية الرأي والتعبير وذلك تبعا “لترمومتر” الظرفية السياسية الداخلية لهذه الدول، وأيضا لواقع الشرط السياسي الدولي. فبين 1975 و 1991 حصلت تطورات وتعديلات في اتجاه ليبرالية قوانين الإعلام. كما أن ما بعد حرب الخليج ونشوء النظام العالمي الجديد حصلت تطورات أخرى موسومة بمزيد من التحرير ورفع الاحتكار.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[1]  حول ظروف إلغاء هذا القانون راجع: علي كريمي: حقوق الإنسان والحريات العامة في المغرب بين الواقع القانوني وظروف الإكراه السياسي. منشورات REMALD 2003.

[2] Roger Pinto : la liberté de l’information et de l’opinion Ed : domat 1995

[3]  حول احتكار الدول المغاربية للإعلام السمعي البصري راجع: الكتاب الجماعي l’information au Maghreb  CERES Production Collection enjeu Tunisie : 1992

[4]  ما بين 1958 و 1965 تاريخ إعلان حالة الاستثناء تعرض القانون المغربي لعدة تعديلات قزمت ليبرالية ما بين 1959 و 1960، 1962، 1963.

[5] Brahim Brahimi : la liberté de l’information à travers les deux codes de la presse (1982-1990) en Algérie

In : l’information au Maghreb : ouvrage collectif Tunisie 1992. p : 182-213

[6]  فالمادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية تؤكد على حرية الإعلام والرأي والتعبير، فحولت ماجاء في الإعلان العالمي سنة 1948 وفي نفس المادة إلى قاعدة قانونية ملزمة.

[7]  يعتبر قانون 1982 الخاص بالإعلام أو قانون حقيقي للإعلام في الجزائر. وذات الشيء يقال بالنسبة لقانون 1975 في تونس.

[8]  قانون الصحافة التونسي عدد: 32 لسنة 1975 مؤرخ في 28 أبريل 1975 يتعلق بإصدار مجلة الصحافة

[9]   القانون الجزائري رقم 82-01 المؤرخ في 24 رمضان عام 1402 الموافق 6 فبراير 1982

[10] Zoubir chaouche : l’évolution des médias en Algérie in information au Maghreb : CERES production 1992 p :123-130

[11]  القانون رقم : 90-07 بتاريخ 3 أبريل 1990 المتعلق بالإعلام Annuaire de l’Afrique du Nord : 1990- p : 533-534

[12]  قانون الصحافة التونسي عدد: 32 لسنة 1975 مؤرخ في 28 أبريل 1975

[13] Larbi chouiha : fondements et situation de la liberté de l’information en Tunisie CERES : P 75-76

[14] Larbi chouiha : fondement et situation de la liberté de l’information en Tunisie.

كذلك يراجع :

Tunisie : la liberté d’expression assiégée

Rapport du group de l’IFEX chargé d’observation de l’état de la liberté d’expression en Tunisie Fevrier 2005. P22 suivantes.

[15]  محمد باب ولد حامد: الإطار القانوني والتنظيمي للمشهد السمعي البصري في موريطانيا رسالة لنيل دبلوم الدراسات عليا، معمقة كلية الآداب: عين الشق الدار البيضاء 2008

[16]  حول هذه التطورات التي عرفها المغرب أنظر علي كريمي: الانتقال الديموقراطي في المغرب قضايا في الإصلاح السياسي والدستوري

منشورات نوافذ 2005 الدار البيضاء

[17]  لم تكن هذه هي أول مرة تقدم فيها المعارضة مقترحة قانون لتعديل الفصل 77  إذ سبق لحزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية تقديم مقترح بهذا الشأن إلى برلمان 1963 في دورته الربيعية سنة 1965

[18] Najib lamnini : le régime juridique des médias écrits et audiovisuels :l au maroc thése de doctorat d’états : faculté de droit Casablanca Maroc :2007

أيضا علي كريمي: الخلفية السياسية لتقييد حرية الرأي والتعبير في التشريع الإعلامي المغرب الدورية المغربية لبحوث الاتصال: 2003

[19] Mohammed kirat : la liberté de la presse en Algérie avant octobre 1988

Ouvrage collectif : l’information au Maghreb Tunisie 1992. p : 166

[20]  وردت هذه المادة بشكل متواتر في كل القوانين التونسية في القانون رقم:32 لسنة 1975 المؤرخ ب 28/2/1975. والذي   نقح  بموجب القانون عدد : 85 لسنة 1993 المؤرخ ب 2 غشت 1993 كما وردت في تعديلات 2001…الخ

[21] P. Bernard : la notion de l’ordre public en droit administratif L.G.D.J, Paris 1962

[22]  وثم كذلك إدراج المادة 45 في القانون الجنائي تحت عدد 220 مكرر بمقتضى القانون 43 لسنة 2001

[23]  وصف القانون الجزائري لسنة 1990 بكونه قانون جنائي للإعلام وكمثال على ذلك ما نصادفه في مختف المواد المشار إليها وخاصة المادة 77 التي تنص على الحكم بالسجن لمدة تتراوح بين 6 أشهر وثلاث سنوات عند تحقير الأديان السماوية أو

المادة 84 التي تحكم بالحبس من 5 سنوات إلى 10 سنوات على النشرات التي تهدد أمن الدولة والوحدة الوطنية

الاخبار العاجلة